فصل: مسألة سؤال عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة سؤال عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمن:

وفي كتاب القطعان قال ابن القاسم عن العمري «أن عائشة قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله من المؤمن؟ قال الذي إذا أصبح سأل من أين قرصته، قالت يا رسول الله من المؤمن؟ قال الذي إذا أمسى سأل من أين قرصته، قالت يا رسول الله لو علم الناس أنهم كلفوا علم ذلك لتكلفوه قال قد علموه ولكنهم غشموا بالمعيشة غشما».
قال محمد بن رشد: سؤال عائشة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المؤمن؟ معناه من المؤمن الممدوح بالإيمان، إذ لا يقال فلان مؤمن على سبيل المدح له إلا إذا كان حسن الإيمان يتوقى به من الآثام. وقوله: سأل من أين قرصته في الغداء والعشاء، معناه بحث عمن اشتريت له منه حتى يعلم إن كان طيب المكسب أم لا، فلا يأكل إلا ما تيقن أنه لا تباعة لأحد عليه فيه، بتوقيه المتشابه وتركه ما يربيه إلى ما لا يربيه. وإنما ذكر القرصين اللذين لا فضل فيهما عما يحتاج إليه ليبين بذلك أن ما فيه فضل عما لابد له منه فذلك عليه فيه آكد، فهذا معنى الحديث عندي، والله أعلم، وبه التوفيق، لا شريك له.

.مسألة قول ابن مسعود المراء لا تؤمن فتنته:

في سماع يحيى من كتاب الأقضية قال يحيى وأخبرني ابن أبي كثير عن ابن عيينة أنه قال: كان ابن مسعود يقول: المراء لا تؤمن فتنته، ولا تفهم حكمته.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن المراء هو مخالفة الرجل في القول ومنازعته فيه، والذهاب إلى تصويب قوله بإقامة الحجة على خصمه. وهذا من الفعل المذموم، لأن من قصد إليه لم يأمن أن يفتتن بقوله ولا يفهم وجه قول خصمه بالحرص على الرد عليه. ولا ينبغي لأحد أن يناظر أحدا إلا ليتبين له الحق هل هو فيما يعتقده فيثبت عليه، أو فيما يقوله مناظره فيصير إليه، وبالله التوفيق.

.مسألة الإسلام يسر كله:

في سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب أخبرنا محمد بن أحمد عن عبد الملك بن الحسن، عن ابن وهب عن مالك أنه قال: سمعت رجلا من أهل العلم يذكر أن الإسلام يسر كله، وأن غيره من الأديان عسر كله.
قال محمد بن رشد: هذا قول صحيح يشهد بصحته قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وبالله التوفيق.

.مسألة المراد بالأوابين:

في الأوابين قال ابن وهب في الأوابين هو العبد يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، وقال: الأواب الحفيظ الذي إذا ذكر الله استغفره.
قال محمد بن رشد: قال الله عز وجل: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]، وقال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق: 32]، وقال عن سليمان عَلَيْهِ السَّلَامُ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] يعني أنه رجاع إلى طاعة الله تواب إليه مما يكرهه منه؛ لأن أوابا فعال من أبنية التكثير، كما تقول: ضراب وصوام وقوام وقوال. والفعل منه آب يؤوب أي رجع. ومعنى قول ابن وهب في الأواب إنه العبد يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، معناه كلما وقع في ذنب تاب منه ولم يعد إليه ورجع إلى طاعة ربه، لا أنه الذي يتوب من الذنب ثم يعود إليه بعينه ثم يتوب منه. وقال مجاهد في الأواب الحفيظ: هو الذي يذكر ذنبه في الخلاء فيستغفر منه. وروي عن ابن عباس أنه الذي حفظ ذنوبه ثم رجع عنها، وبالله التوفيق.

.مسألة معاملة الذي يعمل بالربا ويبيع الخمر:

في معاملة الذي يعمل بالربا ويبيع الخمر قال وسألته عن المسلم إن كان معروفا بأكل الربا والعمل به وببيع الخمر، هل ترى أن يتسلف منه أو يقبض الدين منه؟ فقال: شأن المسلم عندي أعظم من شأن النصراني إذا كان المسلم معروفا بأكل الربا والعمل به وببيع الخمر لم أر لأحد أن يتسلف منه ولا يقتضي دينه منه ولا يخالطه ولا يؤاكله. قال ابن وهب قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تخالطن إلا مؤمنا».
قال محمد بن رشد: قوله في المعروف بأكل الربا والعمل به وببيع الخمر إن شأن المسلم في ذلك أعظم من شأن النصراني، يريد أشد من شأن النصراني في معاملة كل واحد منهما، صحيح. وإنما كانت معاملة المسلم الذي يعمل بالربا ويبيع الخمر أشد من معاملة النصراني وهو يبيع الخمر ويعمل بالربا، من أجل أنه غير مخاطب بالشرائع على الصحيح من الأقوال، بدليل إجماعهم على أنه إذا أسلم يحل له ما أربى فيه في حال كفره، وثمن ما باع فيه من الخمر. وقد أمر الله أن تؤخذ الجزية منهم، وكره مالك في كتاب الضحايا من المدونة أن يتسلف الرجل من النصراني دينارا باع به خمرا أو يبيع به منه شيئا، مراعاة للقول بأنهم مخاطبون بفروع الشرائع، ولم يحرمه. والقياس جوازه؛ لأنه لو أسلم لحل له ذلك الدينار. ولم ير في هذه الرواية ابن وهب لأحد أن يتسلف من المعروف بأكل الربا أو بيع الخمر شيئا ولا يقبض منه دينا ولا يخالطه ولا يؤاكله، ومعناه إذا كان الغالب على ماله الحلال، وابن القاسم يجيز ذلك، وهو القياس؛ وأصبغ يحرمه، وهو تشديد على غير قياس؛ لأنه جعل ماله كله حراما لأجل ما خالطه من الحرام، فأوجب عليه الصدقة بجميعه وقال: إن من عامله فيه وجب عليه أن يتصدق بجميع ما أخذ منه. وأما إن كان قد غلب على ماله الربا وثمن ما باع من الخمر فلا يعامل ولا تقبل هديته ولا يؤكل طعامه، قيل على وجه الكراهة، وقيل على وجه التحريم. ولو ورث سلعة أو وهبت له لجاز أن تشترى منه وأن تقبل منه هبة باتفاق. واختلف إن كان الربا وثمن الخمر قد أحاط بجميع ما بيده من المال في مبايعته ومعاملته على أربعة أقوال قد ذكرناها ووجه كل قول منها في مسألة قد شخصناها في هذا المعنى حاوية لجميع وجوهها ومعانيها، فتركت ذكرها هنا اختصارا. ومعنى قوله في الحديث الذي احتج به: «لا تخالطن إلا مؤمنا» أي لا تخالطن في الأخذ والإعطاء إلا مؤمنا ممدوح الإيمان لتورعه عن اكتساب الحرام، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير آية الصدقة:

في تفسير آية الصدقة قال وسألته عن تفسير قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]، فقال: الفقراء المتعففون وهم أهل فاقة وحاجة؛ والمساكين الذين يسألون الناس على الأبواب والطرق وهم السائلون؛ والعمال الذين يستعملون عليها ويشخصون فيها؛ والمؤلفة قلوبهم قوم كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتألفهم إلى الإسلام بالصدقة من الزكاة؛ وفي الرقاب المكاتبون، والغارمين ناس كانت تكون عليهم الديون فلا يجدون ما يقضون به دينهم، فأمر الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعطوا من الزكاة ما يقضون به دينهم؛ وفي سبيل الله: الغازي في سبيل الله، وابن السبيل: المنقطع به الذي لا يجد دابة لركبها ولا ثمنا يتكارى به.
قال محمد بن رشد: قد مضى في آخر أول رسم من سماع أشهب في الفقراء والمساكين ستة أقوال: أحدها قوله في هذه الرواية: إن الفقير المتعفف الذي لا يسأل، والمسكين المحتاج الذي يسأل، وهو أظهرها. ولا اختلاف في أن العاملين عليها هم الذين يستعملون عليها ويشخصون فيها كما قال في الرواية. وأما المؤلفة قلوبهم فقد مضى القول فيهم في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم.
وأما قوله وفي الرقاب ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يجوز أن يعان بها المكاتبون وإن لم تتم بذلك حريتهم، وهو قول المغيرة وظاهر هذه الرواية؛ والثاني أنه لا يجوز أن يعان بها المكاتبون وإن تمت بذلك حريتهم من أجل أن الولاء للذي كاتبهم، وهو قول ابن القاسم في الواضحة وظاهر روايته عن مالك في المدونة؛ والثالث أنه يجوز أن يعان بها المكاتبون إن تمت بذلك حريتهم. فالقول الأولى ضعيف، والقول الثاني هو القياس، والقول الثالث استحسان.
وأما الغارمون فقال في هذه الرواية: إنهم الذين تكون عليهم الديون، يريد من غير فساد، فلا يجدون لها قضاء، يريد أو يجدون لها قضاء فلا يفضل لهم من المال بعد قضائها ما تحرم به عليهم أخذ الصدقة؛ لأنهم إن لم يجدوا لديونهم قضاء فهم فقراء غارمون تكون لهم الصدقة بحق الفقر وحق الدين، وإن وجدوا لها قضاء ولم يفضل لهم بعد قضائها من المال ما تحرم به الصدقة عليهم كانت لهم الصدقة بحق الدين لا بحق الفقر؛ لأنهم أغنياء بما كان عندهم من المال مكافئا لما كان عليهم من الديون، وهم الذين قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» فذكر فيهم الغارم. واختلف إن لم يكن مع الغريم ما يفي بدينه إلا دارا يسكنها أو خادما يخدمه، لا فضل في ذلك عما يحتاج إليه في سكناه واختدامه، هل يحسب الدين في ذلك فيأخذ من الزكاة لحق الفقراء خاصة، أو لا يحسبه في ذلك فيأخذ من الزكاة لحق الفقر والدين جميعا؛ واختلف إن كان له من المال ما يفي بدينه سوى الدار والخادم اللذين لا فضل فيهما، فقيل: إن الدين يحسب فيهما ويبقى له المال فلا تحل له الصدقة، وقيل: إنه يحسب الدين فيما له من المال سوى الدار والخادم اللذين لا فضل فيهما، فيأخذ من الزكاة لحق الفقير. والقولان قائمان من المدونة في المسألتين جميعا.
وأما قوله: وفي سبيل الله إنه الغازي في سبيل الله، فهو صحيح لا اختلاف فيه، وإنما يختلف هل يعطى منها الغني في الغزو؟ فقال في المدونة: إنه يعطى منها وإن كان غنيا، وهو قول محمد بن سلمة: إن الغني يأخذ من الصدقة ما يتقوى به للجهاد، وهو مذهب أصبغ. ولعيسى بن دينار في تفسير ابن مزين أنه لا يعطى من الزكاة إلا إذا احتاج في غزوه ولم يحضره وفره ولا شيء من ماله. والأول هو الصحيح، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» فذكر فيهم الغازي في سبيل الله. وابن السبيل هو المنقطع به في السفر لحج كان أو غيره، وإن كان غنيا في بلده، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قوله عز وجل كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ:

في تفسير قوله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]:
وسئل عن تفسير قول الله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، قال إذا جاء السحر تركوا الصلاة وأقبلوا على الاستغفار.
قال محمد بن رشد: قد مضى قرب آخر الرسم الأول من سماع أشهب الكلام على قوله: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وتفسير قوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] فما فسره به في الرواية صحيح بين لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قوله وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ:

في تفسير قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وسئل عن تفسير قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] يقول: أيها الزارع اتق الله، وأد حق ما رفعت. وأنت أيها الوالي لا تأخذ أكثر من حقك فتكون من المسرفين.
قال محمد بن رشد: أما قوله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فلا اختلاف في أن الخطاب فيه لأصحاب الأموال. واختلف في المراد بذلك الحق ما هو، فذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أنه الزكاة المفروضة في الأموال، وروي ذلك عن ابن عباس وجماعة من أهل التفسير، وقال آخرون: بل ذلك حق أوجبه الله عز وجل في الأموال غير الزكاة المفروضة، فنسخه الله بالزكاة، فلا حق في الأموال سوى الزكاة.
وأما قوله عز وجل: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] فقيل: إن الخطاب فيه لآخذي الزكاة فلا يتعدوا من الزكاة أكثر من الواجب فيها فيكونوا من المسرفين، وهو قوله في هذه الرواية. وقيل: الخطاب بذلك للولاة أن لا يأخذوا أكثر من الواجب لهم فيكونوا من المسرفين، ولأصحاب الأموال أن لا ينقصوا من الواجب عليهم فيكونوا من المسرفين؛ لأن الإسراف يكون في الزيادة على الحق وفي النقصان منه. وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في تأويل الآية: معناها لا تمنعوا الصدقة فتعصوا. وفي قوله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] على القول بأن المراد بالحق الزكاة بعد أن ذكر في الآية الزمان، دليل على إيجاب الزكاة في الفواكه. وإلى هذا ذهب ابن حبيب. وفي قوله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] بعد أن ذكر الثمار والزرع، دليل على أن الزكاة لا تجب في الثمار إلا يوم جذاذها؛ لأن الحصاد في الثمار هو جذاذها، وأنه ليس على الرجل أن يحصي في الزكاة ما أكل من ثمر النخيل والأعناب قبل الجذاذ ولا من الفريك والفول الأخضر وشبهه قبل الحصاد، وهو قول الليث بن سعد ومذهب الشافعي تعلقا بظاهر هذه الآية مع ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع». فعلى هذا يحسن أن يتأول أن قول الله عز وجل: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] إنما يعود على أصحاب المال في الأكل الذي أباحه الله عز وجل لهم ولم يوجب عليهم فيه زكاة، فيكون المعنى في قوله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] كلوا من ثمره إذا أثمر ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، وآتوا حقه يوم حصاده. فإذا أكل الرجل على هذا من ثماره بعد طيبها اليسير بغير إسراف لم يحصه في الزكاة، وإن أسرف في الأكل منها أحصاه وأخرج زكاته. وهذا ظاهر في التأويل، يؤيده الحديث المذكور، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قوله عز وجل يُرَاءُونَ:

في تفسير قوله عز وجل: {يُرَاءُونَ} [الماعون: 6]:
وسئل عن تفسير قوله عز وجل: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] قال هم المنافقون يراءون بالإسلام ويمنعون زكاة أموالهم.
قال محمد بن رشد: قد قيل في الماعون إنه ما فيه منفعة، كالفأس والقدر والدلو وشبه ذلك مما يعيره الناس بعضهم بعضا بكرم أخلاقهم ولا يشحون به ولا يمنعونه. فالآية نزلت في المنافقين بدليل قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] لأنه لا يرائي بأعماله ويريد بها غير وجه الله عز وجل إلا منافق، فالوعيد يتعلق بهم على من تأول أن الماعون الزكاة، على النفاق وعلى منع الزكاة، وعلى مذهب من يتأول أن الماعون عارية متاع البيت، على النفاق وعلى منع العارية من المسلمين بغضا لهم، لا على نفس المنع لمجرده، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قوله عز وجل وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ:

في تفسير قوله عز وجل:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وسئل عن تفسير قوله عز وجل: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] فقال: إن ذلك أن يطأ الرجل امرأته إذا تبين له أنها حائض، فقال: لا جناح عليك فيما لم تتعمد.
قال محمد بن رشد: التلاوة إنما هي: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] والآية نزلت في الأمر بدعاء الرجل إلى أبيه إلا أن لا يعلم أبوه فيدعى إلى مواليه، فإن لم يكن له موال فهو أخ للمسلمين بالإسلام. قال الله عز وجل: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فرفع عز وجل بهذه الآية الحرج عمن أخطأ بأن نسب الرجل إلى مواليه أو إلى أنه أخ للمسلمين بالإسلام إذا لم يعلم أبوه، وأوجب الحرج في ذلك عليه إذا علم أباه فتعمد بقلبه نسبته إلى غير أبيه. وقيل: إن معنى الآية إنما هو رفع الحرج فيها عمن ينسب الرجل إلى غير أبيه وهو يظنه أباه، وأوجب الحرج عليه إن تعمد بقلبه نسبته إليه وهو يعلم أنه غير أبيه. وقيل: إن معنى الآية إنما هو أن الله رفع الإثم والحرج عمن أخطأ بأن نسب الرجل إلى من تبناه قبل أن يعرف كراهة الله عز وجل لذلك ونهيه عنه، وأوجب الحرج على من تعمد مخالفة أمر الله عز وجل بعد أن أعلمه بالخطأ الذي رفع الله فيه الحرج عن هذه الأمة بهذه الآية، ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وعما استكرهوا عليه» وهو على وجوه: منها أن يفعل المحظور وهو يظنه مباحا؛ ومنها أن يفعل المحظور في وقت يظنه مباحا كالذي يفطر في رمضان وهو يظن أن الشمس قد غابت، وكالذي يطأ الحائض وهو يظن أنها طاهر؛ ومنها أن يفعل الفعل المحظور من غير قصد إليه ولا إرادة، كالذي يرمي الحجر حيث يجوز له فيصيب به حيوانا أو إنسانا فيقتله، وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة ما جاء من أن السلطان ظل الله في الأرض:

فيما جاء من أن السلطان ظل الله في الأرض قال: وأخبرني الليث يرفع الحديث إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إن «السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم، فإذا عدل فيهم كان له الأجر وعلى رعيته الشكر، وإذا جار عليهم كان عليه الوزر وعلى رعيته الصبر». وقال: «من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحة حرم الله عليه ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام».
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين، وفيه: أنه لا يجوز الخروج على الإمام وإن جار، لما يؤدي إليه ذلك مما هو أشد من جوره، وبالله التوفيق.

.مسألة عيب الإكثار:

في عيب الإكثار قال: وأخبرني عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال: كنا جلوسا عند مالك يوما إذ مر بنا ابن وهب فلحظه مالك ببصره ساعة ثم قال: سبحان الله أيما فتى لولا أنه مكثر، ثم قال: بلغني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إني مما أتخوف على أمتي العصبية والقدرية وكثرة الرواية».
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة ذلك بين؛ لأن من أكثر رواية الأحاديث ولم ينتق من يحملها عنه لم يأمن أن يحدث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لم يقله؛ ومن اشتغل برواية الأحاديث عن التفقه فيها ومعرفة ما عليه العمل منها فما وفق لما له الحظ فيه. وقد قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: العلم الذي هو العلم معرفة السنن، والأمر المعروف الماضي المعمول به. وكان ابن سيرين يقول: إنما هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تحملون دينكم. وقال يحيى بن يحيى: سمعت مالكا يقول: لقد أدركت بهذا البلد أكثر من سبعين شيخا كلهم أهل فضل ما حملت عن واحد منهم حرفا. قيل له: ولم ذلك يا أبا عبد الله؟ فقال: إن هذا الأمر ليس يؤخذ إلا من أهله، إنما هي كلمة تغير فيستحل بها حرام أو يحرم بها حلال.
ومخافة هذا المعنى- والله أعلم- قال عمر بن الخطاب: أقلوا الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا شريككم. وقد مضى الكلام على قول عمر هذا في رسم حلف أن لا يبع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة التوقي في الفتوى:

في التوقي في الفتوى قال وحدثني عن بعض أصحاب مالك قال: كنا عنده جلوسا إذ أتاه ابن أبي حازم فأدناه وقربه وأقبل عليه بكلامه وحديثه، ثم قال له: يا ابن أبي حازم، إذا جاءك أحد فإن قدرت أن تنجي نفسك قبل أن تنجيه فافعل. وحدثنا عن ابن وهب أنه قال: لما ودعت مالكا قال لي: لا تجعل ظهرك للناس جسرا يجوزون عليه إلى ما يحبون، فإن أخسر الناس من باع آخرته بدنيا غيره.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، وهو مثل أن يستفتي العالم الرجل من إخوانه في أمر يرجو أن يجد عنده فيه رخصة، وذلك الأمر مما تعارضت عنده فيه الأدلة في الحظر والإباحة، وفي وجوب شيء وسقوطه، فيغلب من الدلائل ما يوجب إباحة المحظور أو سقوط الواجب ويفتيه بذلك، فينقلب عنه مسرورا بما أفتاه به ورخص له فيه، ويبقى هو مشغول البال بذلك. وقد قال عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم لرجل أفتى في الرضاعة بشيء كأنه يقول لم يرها إلا من قبل الأم: لا تفت بفتوى لا تتقلب من الليل على فراشك إلا ذكرته. وقعت هذه الحكاية في سماع ابن القاسم من كتاب الرضاع. وسأل ابن وهب مالكا عن الذي يجعل على نفسه صيام الإثنين والخميس فيمرض أو يمر به الإثنين والخميس وهو يوم فطر أو أضحى، فقال: أرى أن يقضي بعد ذلك إلا أن يكون نوى الفطر إذا مرض وإذا مر به الفطر والأضحى، وقال: إنه يقال إن أخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره، ومعناه في القاضي والمفتي، وبالله التوفيق.

.مسألة الذي يحلف على أن عمر بن الخطاب من أهل الجنة:

في الذي يحلف على أن عمر بن الخطاب من أهل الجنة وأخبرني عبد الملك بن الحسن عن غير واحد من المصريين أن ابن القاسم سئل عن رجل قال: امرأته طالق إن لم يكن عمر بن الخطاب من أهل الجنة، فقال ابن القاسم: لا حنث عليه. وأخبرني من أثق به عن ابن القاسم في أبي بكر وعمر مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: لا شك ولا ارتياب في أنه لا حنث على من حلف بطلاق امرأته في أبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنهما من أهل الجنة. وكذلك القول في سائر العشرة أصحاب حراء الذين شهد لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة، وكذلك من جاء فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثر صحيح أنه من أهل الجنة، كعبد الله بن سلام، فيجوز أن يشهد له بالجنة. وإنما توقف مالك فيمن حلف في عمر بن عبد العزيز أنه من أهل الجنة فقال: هو إمام هدى، أو قال هو رجل صالح ولم يزد على ذلك، إذ لم يأت فيه نص يقطع العذر. وقال ابن القاسم: إنه لا حنث عليه. ووجه ما ذهب إليه التعلق بظاهر ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: «إذا أردتم أن تعلموا ماذا للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء» وقوله: «أنتم شهداء الله في الأرض فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار». وقد حصل الإجماع من الأمة على حسن الثناء عليه، والإجماع معصوم، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لن تجتمع أمتي على ضلالة». وقد مضى في رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق القول فيمن حلف أنه من أهل الجنة أو أنه ممن يدخل الجنة، وهو مما يتعلق بهذا المعنى، وبالله التوفيق.

.مسألة أيمان البيعة لا تلزم من أكره عليها:

في أن أيمان البيعة لا تلزم من أكره عليها قال ابن القاسم: ولقد قلت لمالك إنه تأتينا بيعة هؤلاء القوم فتغلق علينا أبواب المسجد فيضهدوننا فنبايع، قال: إذا علمت بذلك فلا تبرح واجلس في بيتك. قلت: أفكان مالك يقول: إذا أكرهوه على البيعة إن ذلك لا يلزمه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا خاف على نفسه إن لم يبايع على ما يستحلف عليه جاز له أن يبايع ولا تلزمه الأيمان في ذلك ما كانت. قال الله عز وجل: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». وإن أمكن من امتحن بذلك أن يداري فيما يستحلف فيه كان حسنا من الفعل. فقد روي أن أبا حنيفة فر من بيعة المنصور، فلما أخذ المنصور جماعة من الفقهاء، قال أبو حنيفة: لي فيهم أسوة، فخرج مع أولئك الفقهاء، فلما دخلوا على المنصور أقبل على أبي حنيفة وجذبه من بينهم وقال له: أنت صاحب حيل، فالله شاهد عليك أنك تبايعني صادقا من قلبك، قال: الله يشهد علي حتى تقوم الساعة، قال حسبك. فلما خرج أبو حنيفة قال له أصحابه: حكمت على نفسك ببيعته حتى تقوم الساعة، فقال: إنما أردت حتى تقوم الساعة من مجلسك إلى ما تحتاج إليه من بول أو غائط أو غير ذلك، أي حتى يقوم من مجلسه ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة ولد المسلم الصغير يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل:

من سماع أصبغ بن الفرج من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب الزكاة والصيام قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن ولد المسلم الصغير يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل، قال: ما سمعت فيه شيئا، إلا أن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] الآية، وأرجو أن يلحقهم الله بهم. فأما من احتلم وجرى عليه القلم ثم أصيب بعد ذلك فإني سمعت بعض أهل العلم والفضل يقول إنه يطبع على عمله بمنزلة من قد مات.
قال محمد بن رشد: الذي يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل فهو بمنزلة من قد مات صغيرا من أولاد المسلمين، إذ لم يلحق بالمكلفين، فهو مولود على الفطرة وصائر بفضل الله ورحمته إلى الجنة. وما رجاه ابن القاسم بتأويل الآية من أن يلحقوا بآبائهم مروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروي عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في جنته وإن لم يبلغها بالعمل ليقر بهم عينه ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21].».
وأما من أصابه الخبل بعد أن احتلم وجرى عليه القلم فما حكى أنه سمعه من بعض أهل العلم فيه من أنه يطبع على عمله بمنزلة من مات صحيح في المعنى لارتفاع القلم عنه بالخبل، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رفع القلم عن ثلاثة» فذكر فيهم المجنون حتى يفيق، وبالله التوفيق.

.مسألة ما حرست السماوات قط منذ خلقهن الله حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم:

ومن كتاب الجامع:
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يذكر أنه سمع أنه يقال: ما حرست السماوات قط منذ خلقهن الله ولا رمي عنهن بالشهب والنجوم حتى بعث الله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9].
قال محمد بن رشد: وقد قيل: إنه كان قبل بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رمي الشهب شيء يسير، فلما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثر ذلك واشتهر وظهر. وقيل إن ذلك لم يكن أصلا قبل بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن الدليل على ذلك أنه لا يوجد في شيء من أشعار الجاهلية ذكر ذلك والتشبيه به. وقد روي عن أبي رجاء العطاردي أنه قال: كنا قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما نرى نجما يرمى به، فبينما نحن ذات ليلة إذ النجوم قد رمي بها، فقلنا ما هذا؟ إن هذا لأمر حدث، فجاءنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث، وأنزل الله هذه الآية في سورة الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]. روي عن سعيد ابن جبير «عن ابن عباس أنه قال: كان للجن مقاعد في السماء يستمعون الوحي، فكان إذا نزل سمعت الملائكة كهيئة الحديد يرمى على الصفوان، فإذا سمعت الملائكة ذلك خروا لجباههم فإذا نزل عليهم أصحاب الوحي: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] فتنادوا بما ينزل، فإذا نزل إلى السماء الدنيا قالوا: يكون في الأرض كذا وكذا من موت عظيم أو من أمر يحدث من جدب أو خصب، فنزلت الجن بذلك فأوحوه إلى أوليائهم من الإنس. فلما بعث الله عز وجل محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا من الاستماع وفزع لذلك إبليس، وقال: لم يكن هذا إلا لظهور نبي، ففرق جنده في البحث عن ذلك، وكان فيمن بعث تسعة من جند نصيبين، فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ببطن نخلة قائم يصلي ويتلو القرآن فسمعوه ورقت إليه قلوبهم، فاشتهوه ودنوا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبا للقرآن حتى كادوا يركبونه وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يشعر بهم، وذلك قوله عز وجل: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] وكانوا مؤمنين بموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فآمنوا بالله ورسوله، ثم رجعوا إلى قومهم ولم يذهبوا إلى إبليس، فقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم في الأحقاف: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [الأحقاف: 30] فاستجاب لهم جماعة من قومهم، فأقبلوا بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم نحو من سبعين جنيا، وهو عَلَيْهِ السَّلَامُ ببطن نخلة، فلما بلغه أمرهم خرج إليهم ومعه عبد الله بن مسعود».
روي «أن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجان فليفعل فلم يحضره منهم أحد غيري. وروي عنه أيضا أنه قال: استتبعني رسول الله- صلي الله عليه وسلم- فخرجنا حتى انتهينا إلى مكان كذا فخط لي خطا وقال: لا تخرج منه فإنك إن خرجت منه هلكت وأقبل يكلمهم ويقرأ عليهم القرآن فآمنوا به وصدقوه. فلفا أراد الرجوع قالوا يا رسول الله إنا خرجنا إليك في سنة جدبة والأرض بيننا محل ودنا قال فأعطاهم روثة وعظما وقال لكم بالروثة من خصب كل أرض تمرون عليها فيها روثة مثل ما كانت عليها قبل ذلك».
ونهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث. وروي: «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينما هو جالس بين أصحابه إذ سمع سلاما ولم ير شخصا فقال من أنت؟ قال همام بن هم بن أفلح بن إبليس، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على إبليس لعنة الله وعلى أتباعه وما ولد، فقال همام رويدك إني قد أسلمت وقد دعوت نفرا فتابعوني وها هم أولاء معي، منهم سويد بن قارب، وكان عفريتا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف كان إسلامك؟ قال: مررت بنوح وقد خنقه قومه فوثبت له وكشفتهم عنه وكنت معه حتى أغرق الله عز وجل قومه، ثم لم أزل مع الأنبياء- عَلَيْهِمْ السَّلَامُ- إلى هلم جرا، وسمعت بك فأتيت سويدا ومن معه فدعوتهم إليك فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تقول يا سويد فيما يقول همام؟ فسمع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوابا ولم ير شخصا أتاني بريدي، يعني هماما، بعد هجعة فقال لي: يا سويد بن قارب أتاك نبي من لؤي بن غالب فارحل إلى مكة تبغي الهدى، ما مؤمنو الجن ككفارها، وليس قداماها كذناباها، فدعا لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: ما حاجتكم؟ فقالوا: أن تخرج فتصلي بنا الليلة لنقتدي بك فأنعم لهم، وسمعها أنس بن مالك وقال لأرتصدن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الليلة فإنه قد أنعم لهم. فلما صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء الآخرة قال لأصحابه انهضوا إلى رحابكم. قال أنس: فعلمت أنه يريد أن ينهض لوعده فترصدته حتى مضى، ثم تبعت أثره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعمي علي حتى سمعت قراءته، فقصدت نحو القراءة فإذا خيمة عظيمة تخرج قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها، فوقفت على باب الخيمة فإذا أنا بصفوف ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمهم فشققت صفا وقمت معهم، وإذا إنا بقوم كأمثال الزط، فلما انفتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أر أحدا. ورجع همام وسويد إلى قومهما يجاهدانهم حتى يؤمنوا فأنزل الله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] الآية» وبالله التوفيق.